إني أرى جموعًا متزايدة
أرى جموعًا غفيرةً، ولكنها تعيش بلا أبواب.
يدوي الزمن حولها، كأنه يدوي حول صخورٍ وتراب.
وإذا استجابوا للزمان، تناكروا وتراشقوا بالأشواك والحصى.
وقضوا على روح الأخوة بينهم جهلًا، وعاشوا حياة الأغراب.
فرحت بهم غول التعاسة والفناء، وطموحات اللصوص والمتغلبين.
إنها ألعاب تحركها المطامع والأهواء، وصغائر الأحقاد والأسباب.
وأرى نفوسًا من دخانٍ راكدة كأشباحٍ خلف ضباب.
موتى نسوا شوق الحياة وعزمها، وتجاوبوا كتحرك الأنصاب.
واختمرت بهم لهيب الوجود، فلم يبقوا إلا كالأخشاب المحترقة.
لا قلب يخترق الحياة، ولا حكمة ترتقي كسمو الطائر الطائر.
بل، في التراب الميت، في حزن الثرى، تنمو مشاعرهم مع الأعشاب.
وتبقى خامدة، كزهورٍ بائسة تنمو وتذبل في ظلام الغابة.
أبدًا تحدق في التراب، ولا ترى نور السماء، فروحها كتراب.
الشاعر الموهوب يريق فنه هدرًا على الأقدام والأعتاب.
ويعيش في كونٍ عقيمٍ ميتٍ، قد شيّدته غباوة العقود.
والعالم المثقف ينفق عمره في فهم ألفاظٍ ودرس كتاب.
يعيش على رميم القديم المحتوى كالدود في رمادٍ خامد.
والشعب بينهما قطيعٌ ضائعٌ، دنياه دنيا مأكلٍ وشراب.
ويل للحساس في دنياهم، ماذا يلاقي من أسى وعذاب!
تسألني لماذا سكت ولم أهب
يقول أبو القاسم الشابي:
تسألني لماذا سكت ولم أهب بقومي، وديجور المصائب مظلم.
وسيل الرزايا جارِفٌ متدفقٌ، غضوبٌ، ووجه الدهر أربد أقتام.
سكتُ، وقد كانت قناتي غضّةً، تصغي إلى همس النسيم وتحلم.
وقلتُ، وقد أصغت إلى الريح مرةً، فجاش بها إعصارُه المتهزّم.
وقلتُ، وما جاش القريض بخاطري، كما جاش صخاب الأوازي أَسحم.
أرى المجد معصوب الجبين مجدَّلاً، على حسك الآلام يغمره الدم.
وكان وضّاح الأسارير باسماً، يهبُّ إلى الجلاء ولا يتبرم.
فيا أيها الظلم المصعر خدّه، رويدك إن الدهر يبني ويهدُم.
سيثأر للعز المحطم تاجه، رجالٌ إذا جاش الردى فهم هم.
رجالٌ يرون الذل عارًا وسُبّة، ولا يرهبون الموت والموت مقدم.
وهل تعتلي إلا نفوسٌ أبيّةٌ، تصدع أغلال الهوان وتحطم.