الشّعر الرّومانسي
يُعدّ الشّعر الرّومانسي من أجمل أنواع الشعر وأكثرها رقّة، حيث يتناول مواضيع العشق والشوق وآهات العشّاق ومعاناتهم. ينقلك هذا النوع من الشعر إلى عوالم فوق النجوم، مع همسات الليل وتغريد الطيور والبلابل، حيث يُمكنك التعبير عن مشاعرك، والتّحليق مثل طيور النورس الضائعة فوق البحار. لقد كُتبت العديد من القصائد الرّومانسية التي تعدّ من أروع القصائد الحالمة، وتتحدث عن قصص الحب والعشاق.
من أبرز شعراء الرّومانسية في العصر الجاهلي الشاعر امرؤ القيس، الذي قدم لنا قصائد خالدة تعبّر عن حبّه وشوقه لحبيبته. وفي العصر الأموي، ظهر العديد من شعراء الغزل مثل قيس بن الملوّح الذي كتب عن حبه لليلى ومعاناته بسبب فراقها. أما في العصر الحديث، فلا يمكن إغفال أثر الشاعر نزار قباني الذي قدّم قصائد غاية في الجمال والرّقة، مُلهبًا قلوب الناس بمعاني الحبّ الصادق. نقدم لكم مجموعة من أجمل القصائد الرّومانسية.
تسألني حبيبتي
قصيدة لنزار قباني، وفيما يلي أبياتها:
تسألني حبيبتي
ما الفرق بيني وبين السماء؟
الفرق ما بينكما
أنكِ إذا ضحكتِ، عزيزتي
أنسى السماء.
يا رب، قلبي لم يعد كافياً
لأن من أحبّها تعادل الدنيا.
فأضف إلى صدري واحداً
بحجم الدنيا.
ما زلتِ تسأليني عن عيد ميلادي،
سجّلي إذاً ما تجهلين:
تاريخ حبّك لي هو تاريخ ميلادي.
ذات العينين السّوداوين،
ذات العينين الممطرتين.
ما أطلب من ربي إلا شيئين،
أن يحفظ هاتين العينين،
ويزيد في أيامي يومين كي أكتب شعراً
في هاتين اللؤلؤتين.
أشكوكي إلى السماء، كيف استطعتِ كيف
أن ت اختصري جميع ما في الأرض من نساء.
لو كنتِ يا صديقتي بمستوى جنوني،
لرميت ما عليكِ من جواهر،
وبعتِ ما لديكِ من أساور،
ونمتِ في عيوني.
لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي
قصيدة للمتنبي، وفيما يلي أبياتها:
لعَيْنَيْكِ ما يلقَى الفؤاد وما لقي،
وللحُبّ ما لم يبقَ مني وما بقي.
وما كنتُ ممّن يدخل العشقُ قلبَه،
ولكنّ من يبصر جفونَكِ يعشقِ.
وبين الرّضى والسخطة والقُرب والنوى،
مجالٌ لدمع المقلّة المتراقِقِ.
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه،
وفي الهجر فهو الدهرَ يرجو ويتقي.
وغضبي من الإدلال سكرى من الصبى،
شَفعتُ إليها من شبابي برقيقِ.
وأشنب معسول الثنيّات واضحٍ،
ستَرْتُ فمي عنه فقَبّلَ مفرقي.
وأجياد غزلان كجيدك زرنني،
فلم أتبين عاطلاً من مطوّقِ.
وما كلّ من يهوى يعفّ إذا خلا،
عفافي ويرضي الحب والخيل تلتقي.
سقى الله أيام الصبى ما يسرّه،
ويفعل فعل البابلي المعتقِ.
إذا ما لبست الدهر مستمتعاً به،
تخرّقتَ والملبوس لم يتخرّقِ.
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم،
بعثن بكلّ القتل من كل مشفقِ.
أدرن عيونا حائراتٍ كأنّها،
مركّبةٌ أحداها فوق زئبقِ.
عشيّة يعدونا عن النظر البكا،
وعن لذّة التوديع خوف التفارقِ.
نودّعهم والبين فينا كأنّه،
قناة ابن أبي الهيجاء في قلب فليَقِ.
قواضٍ نَسج داودَ عندها،
إذا وقعت فيه كنسج الخدرنقِ.
هَوَاد لِملك الجيوش كأنّها،
تخَيّر أرواح الكُمَاة وتنتقي.
تقدّ عَلَيْهِمْ كلّ درع وجوْشنٍ،
وتفري إليهم كلّ سور وخندقِ.
يغير بها بين اللقان وواسطٍ،
ويركزها بين الفرات وجلّقِ.
ويرجعها حمراء كأنّ صحيحها
يُبكي دماً من رحمة المتّدققِ.
فلا تبلغاه ما أقول فإنّهُ
شجاعٌ متى يُذكر له الطعن يشتقِ.
ضروب بأطراف السُيوف بَنانُهُ،
لَعُوب بأطراف الكلام المشققِ.
كسا ئله من يسأل الغيث قطرةً،
كعا ذله من قالَ للفلكِ ارفقِ.
لقد جُدتَ حتى جُدتَ في كل ملّةٍ،
وحتى أتاك الحمدُ من كل منطِقِ.
رأى ملك الرّوم ارتياحكَ للندى،
فَقَامَ مَقَامَ المجتدي المتملّقِ.
وخلا الرماح السمهريّة صاغراً،
لأدرب منه بالطعن وأحذقِ.
وكاتب من أرض بعيدٍ مرامها،
قريبٍ على خيل حوالَيكَ سُبّقِ.
وقد سار في مسراك منها رسولُهُ،
فما سار إلا فوق هامٍ مُفَلّقِ.
فلما دنا أخفى عليه مكانه،
شعاع الحديد البارق المتألّقِ.
وأقبل يمشي في البساط فما درى،
إلى البحر يسعى أم إلى البدْر يرتقي.
ولم يثنيكَ الأعداء عن مهجاتهم،
بمثل خضوعٍ في كلامٍ منمقِ.
وكانت إذا كاتبته قبل هذه،
كتبتَ إليه في قذال الدّمسْتُقِ.
فإن تعطه منك الأمان فَسائِلٌ،
وإن تعطه حدّ الحسام فأخفقِ.
وهَل ترك البيض الصوارد منهمُ،
حبيساً لفادٍ أو رقيقاً لمعتقِ.
لقد وردوا وِردَ القطا شفراتها،
ومرّوا عليها رزدَقاً بعد رزدقِ.
بلغتُ بسيف الدولة النور رتبةً،
أنرتُ بها ما بين غرب ومشرقِ.
إذا شاء أن يلهو بلحيةٍ أحمقٍ،
أراه غباري ثم قال له الحقِ.
وما كمَد الحساد شيءٌ قصَدته،
ولكنه من يزحم البحرَ يغرقِ.
ويمتحن الناس الأمير برأيه،
ويُغضِي على علمٍ بكل مخرقِ.
وإطراقُ طرف العين ليس بنافعٍ،
إذا كان طرف القلب ليس بمطرِقِ.
فيا أيّها المطلوب جاوره تمتنع،
ويا أيّها المحروم يمّمه تُرزقِ.
ويا أجبنَ الفرسان صاحبْهُ تجترئ،
ويا أشجع الشجعان فارقه تفرقِ.
إذا سعت الأعداء في كيد مجده،
سعى جدّه في كيدهم سعي محنقِ.
وما ينصر الفضل المبين على العدى،
إذا لم يكن فضل السعيد الموفقِ.
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
قصيدة لامرؤ القيس، وفيما يلي أبياتها:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْمَلِ.
فَتُوضِحَ فَالمِقْراةِ لمْ يَعْفُ رَسْمُها،
لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ.
تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَا،
وَقِيْعَانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ.
كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا،
لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ.
وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُمُ،
يَقُوْلُونَ لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّلِ.
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ،
فَهَلْ عِندَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا،
وجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ.
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا،
نسيمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ.
فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً،
عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي.
ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ،
وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ.
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِي،
فَيَا عَجَباً مِنْ كورها المُتَحَمَّلِ.
فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَا،
وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ.
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ،
فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ!، إنَّكَ مُرْجِلِي.
تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعاً،
عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرَأَ القَيْسِ فَانْزِلِ.
فَقُلْتُ لَهَا سِي رِي وأَرْخِي زِمَامَه،
ولاَ تُبْعدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ.
فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ،
فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ.
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ،
بِشَقٍّ، وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ.
ويَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ،
عَلَيَّ، وَآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ.
أفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ،
وإِنْ كُنْتِ قَدْ أدمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي.
وَإِنْ تكُ قد ساءتكِ مني خَليقَةٌ،
فسُلّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ.
أغَرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي،
وأنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ؟
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِي،
بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ.
وبَيْضَةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا،
تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ.
تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً إِلَيْهَا وَمَعْشَراً،
عَلَّي حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّوْنَ مَقْتَلِي.
إِذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ،
تَعَرُّضَ أَثْنَاءَ الوِشَاحِ المُفَصَّلِ.
فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا،
لَدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ.
فَقَالتْ يَمِينَ اللهِ، مَا لَكَ حِيْلَةٌ،
وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِي.
خَرَجْتُ بِهَا تمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا،
عَلَى أَثَرَيْنا ذيل مِرْطٍ مُرَحَّلِ.
فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى،
بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ.
هَصَرْتُ بِفَوْدَيْ رَأْسِهَا فَتَمَايَلَتْ،
عَليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَلِ.
إذا التفتت نحوي تضوّع ريحُها،
نسيمَ الصَّبَا جاءت بريا القرنفُلِ.
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ،
تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ.
كَبِكْرِ المُقَانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْرَةٍ،
غَذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ مُحَلَّلِ.
تَصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقي،
بِنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ.
وجِيْدٍ كَجِيْدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ،
إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ.
وفَرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِمٍ،
أثِيْثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ.
غَدَاثِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُلا،
تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ.
وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّرٍ،
وسَاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ.
وتَعْطُو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَثْنٍ كَأَنَّهُ،
أَسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِلِ.
تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَا،
مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ.
وَتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَا،
نَؤُومُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ.
إِلَى مِثْلِهَا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَةً،
إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ.
تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَا،
ولَيْسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَلِ.
ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ،
نَصِيْحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِ.
ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَهُ،
عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الهُمُوْمِ لِيَبْتَلِي.
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ،
وأَرْدَفَ أَعْجَازاً وَنَاءَ بِكَلْكََلِ.
ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِي،
بِصُبْحٍ، وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَلِ.
فَيَا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَهُ،
بكل مُغار الفتل شُدّت بيذبل.
كَأَنَّ الثُرَيّا عُلِّقَت في مَصامِها،
بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ.
وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا،
بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ.
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً،
كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ.
كَمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ،
كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزَّلِ.
مِسِحٍّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنى،
أثَرْنَ الغُبَارَ بِالكَدِيْدِ المَرَكَّلِ.
عَلَى الذبل جَيَّاشٍ كأنَّ اهْتِزَامَهُ،
إِذَا جَـاشَ فِـيْــهِ حَـمْــيُـهُ غَـلْـيُ مِـرْجَلِ.
يـزل الـغُـلاَمُ الـخِـفَّ عَـنْ صَـهَـوَاتِـهِ،
وَيُـلْـوِي بِـأَثْـوَابِ الـعَـنِـيْــفِ الـمُــثَـقَّـلِ.
دَرِيْــرٍ كَــخُــذْرُوفِ الــــوَلِـــيْـــدِ أمَــرَّهُ،
تــقــلــب كَــفَّــيْــهِ بِــخَــيْــطٍ مُــوَصَّـلِ.
لَــهُ أيْـطَــلا ظَــبْـيٍ، وَسَـاقَــا نَــعَــامَــةٍ،
وإِرْخَــاءُ سَـرْحَــانٍ، وَتَـقْـرِيْــبُ تَـتْـفُلِ.
كَــأَنَّ عَــلَــى الكـتـفـيـن مِنْهُ إِذَا انْتَـحَى،
Mَــدَاكُ عَــرُوسٍ أَوْ صَــلايَــةَ حَــنْــظَلِ.
وبَــاتَ عَــلَــيْــهِ سَــرْجُــهُ ولِــجَــامُـــهُ،
وَبَــاتَ بِــعَــيْــنِــي قَــائِـماً غَيْرَ مُرْسَلِ.
فَــعَــنَّ لَــنَــا سِــرْبٌ كَـــأَنَّ نِــعَــاجَـــهُ،
عَــذَارَى دَوَارٍ فِـــي مُـــلاءٍ مُــــذيَـــل.
فَــأَدْبَــرْنَ كَــالــجِــزْعِ الـمُـفَـصَّـلِ بَيْنَهُ،
بِـجِــيْــدٍ مُــعَــمٍّ فِــي الـعَـشِـيْـرَةِ مُخْوِلِ.
فَــأَلْــحَــقَــنَــا بِــالــهَـــادِيَـــاتِ ودُوْنَـــهُ،
جَــوَاحِــرُهَــا فِــي صَــرَّةٍ لَــمْ تُــزَيَّــلِ.
فَــعَــادَى عِــدَاءً بَــيْــنَ ثَــوْرٍ ونَــعْــجَةٍ،
دِرَاكــاً، وَلَــمْ يَــنْــضَــحْ بِــمَـاءٍ فَيُغْسَلِ.
وَظَــلَّ طُــهَــاةُ الــلَّـحْمِ مِن بَيْنِ مُنْـضِجٍ،
صَـفِــيــفَ شِــوَاءٍ أَوْ قَــدِيْــرٍ مُــعَــجَّلِ.
ورُحْــنَــا وَراحَ الـطَّـرْفُ يـنفض رأسه،
مَــتَــى تَــرَقَّ الــعَــيْــنُ فِــيْــهِ تَــسَــفَّلِ.
كَـــأَنَّ دِمَـــاءَ الــهَــادِيَـــاتِ بِـــنَــحْــرِهِ،
عُــصَــارَةُ حِــنَّــاءٍ بِــشَــيْــبٍ مُــرَجَّـلِ.
وأنـت إِذَا اسْــتَــدْبَــرْتَــهُ سَــدَّ فَــرْجَــهُ،
بِـضَــافٍ فُــوَيْـقَ الأَرْضِ لَيْـسَ بِأَعْزَلِ.
أحــارِ تَــرَى بَــرْقــاً أُرِيْــكَ وَمِـيْـضَــهُ،
كَـلَــمْــعِ الــيَــدَيْــنِ فِــي حَــبِــيٍّ مُـكَـلَّلِ.
يُــضِــيءُ سَــنَــاهُ أَوْ مَــصَــابِيْحُ رَاهِبٍ،
أَمــان الــسَّــلِــيْــطَ بالـذُّبَـالِ المُفَتَّلِ.
قَــعَــدْتُ لَــهُ وصُــحْــبَــتِــي بَـيْــنَ حامر،
وبَــيْــنَ إكــام، بُــعْــدَمَــا مُــتَــأَمَّــــلِــي.
فأَضْــحَــى يَــسُــحُّ الـمَاءَ عن كل فيقةٍ،
يَــكُــبُّ عَــلَــى الأذْقَــانِ دَوْحَ الكَـنَـهْبَلِ.
وتَـيْـمَـاءَ لَـمْ يَـتْــرُكْ بِـهَـا جِـذْعَ نَـخْــلَـةٍ،
وَلاَ أُطُـــمـــاً إِلاَّ مَــشِــيـــداً بِــجِــنْــدَلِ.
كَــأَنَّ ذُرَى رَأْسِ الـمُــجَــيْــمِــرِ غُــدْوَةً،
مــنَ الــسَّــيْــلِ وَالــغُــثّــاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ.
كَــــأَنَّ أبـــانـــاً فِــي أفـــانــيــن ودقــه،
كَــبِــيْــرُ أُنَـــاسٍ فِــي بِــجَــادٍ مُـــزَمَّـلِ.
وأَلْــقَــى بِــصَــحْــرَاءِ الـغَـبـيْطِ بَعَاعَهُ،
نــزُوْلَ الـيَـمَــانِـي ذِي العِـيَابِ المحملِ.
كَــأَنَّ سـبــاعــاً فِــيْــهِ غَــرْقَــى غُـديّـة،
بِــأَرْجَــائِــهِ الـقُـصْـوَى أَنَابِيْشُ عَنْصُلِ.
عَـلَـى قَـطَـنٍ، بِـالـشَّـيْـمِ، أَيْـمَـنُ صَـوْبِهِ،
وَأَيْــسَــرُهُ عَــلَــى الــسِّــتَــارِ فَــيَــذْبُل.
وَأَلْــقــى بِــبَــيــسانَ مَــعَ اللـيلِ بَرْكَهُ،
فَــأَنْــزَلَ مِــنْــهُ الـعُـصْـمَ مِنْ كُلِّ مَنْزِلِ.
قصائد عن حبّ قديم
لشاعر محمود درويش، وفيما يلي أبياتها:
على الأقاض وردتنا،
ووجهانا على الرّمل.
إذا مرّت رياح الصّيف،
أشرعنا المناديلا،
على مهل.. على مهل.
غبنا طيّ أغنيتين، كالأسرى،
نراوغ قطرة الطّل.
تعالي مرّة في البال،
يا أختاه!
إن أواخر اللّيل تُعرّيني من الألوان والظلّ،
وتحميني من الذّل!
وفي عينيك، يا قمري القديم،
يشدّني أصلي،
إلى إغفاءه زرقاء،
تحت الشّمس.. والنّخل،
بعيداً عن دُجى المنفى..
قريباً من حمى أهلي.
تشهّيت الطفولة فيك.
مذ طارت عصافير الرّبيع،
تجرّد الشّجر،
وصوتك كان، يا ما كان،
يأتي من الآبار أحياناً،
وأحياناً ينقطه لي المطر،
نقيّاً هكذا كالنّار،
كالأشجار.. كالأشعار ينهمر.
تعالي،
كان في عينيك شيء أشتهيه،
وكنت أنتظر،
وشدّيني إلى زنديك،
شدّيني أسيراً،
منك يغتفر.
تشهّيت الطّفولة فيك،
مذ طارت عصافير الرّبيع،
تجرّد الشجر!
ونعبر في الطّريق،
مُكبّلين،
كأنّنا أسرى،
يدي، لم أدرِ، أم يدك
احتست وجعاً من الأخرى؟
ولم تطلق، كعادتها،
بصدري أو بصدرك..
سروة الذّكرى،
كأنّا عابرا درب،
ككلّ النّاس،
إن نظرا،
فلا شوقاً،
ولا ندماً،
ولا شزراً،
ونغطس في الزّحام،
لنشتري أشياءنا الصّغرى،
ولم نترك لليلتنا،
رماداً.. يذكر الجمرا،
وشيء في شراييني،
يناديني،
لأشرب من يدك ترمد الذّكرى.
ترجّل، مرّة، كوكب،
وسار على أناملنا،
ولم يتعب،
وحين رشفت عن شفتيك،
ماء التّوت،
أقبل، عندها، يشرب.
وحين كتبت عن عينيك،
نقّط كلّ ما أكتب،
وشاركنا وسادتنا..
وقهوتنا.
وحين ذهبت،
لم يذهب.
لعلّي صرت منسيّاً،
لديك،
كغيمة في الرّيح،
نازلة إلى المغرب..
ولكنّي إذا حاولت
أن أنساك..
حطّ على يدي كوكب.
لك المجد،
تجنّح في خيالي،
من صداك..
السّجن، والقيد.
أراك، استند،
إلى وساد،
مهرة.. تعدو،
أحسّك في ليالي البرد،
شمساً،
في دمي تشدو.
أُسمّيك الطّفولة،
يشرئب أمامي النّهد،
أُسميك الرّبيع،
فتشمخ الأعشاب والورد،
أُسمّيك السّماء،
فتشمت الأمطار والرّعد.
لك المجد،
فليس لفرحتي بتحيّري حدّ،
وليس لموعدي وعد.
لك.. المجد،
وأدركنا المساء،
وكانت الشّمس،
تسرّح شعرها في البحر،
وآخر قبلة ترسو
على عينيّ مثل الجمر.
خذي منّي الرّياح،
وقّبليني
لآخر مرة في العمر،
وأدركها الصّباح،
وكانت الشّمس،
تمشّط شعرها في الشّرق،
لها الحنّاء والعرس،
وتذكرة لقصر الرّق.
خذي منّي الأغاني،
واذكريني..
كلمح البرق،
وأدركني المساء،
وكانت الأجراس،
تدقّ لموكب المسبية الحسناء،
وقلبي بارد كالماس،
وأحلامي صناديق على الميناء.
خذي منّي الرّبيع،
وودّعيني..
شؤون صغيرة
قصيدة لنزار قباني، وفيما يلي أبياتها:
شؤون صغيرة،
تمرّ بها أنت.. دون التفات،
تساوي لديّ حياتي،
جميع حياتي..
حوادث.. قد لا تثير اهتمامك،
أعمّر منها قصور،
وأحيا عليها شهور،
وأغزل منها حكايا كثيرة،
وألف سماء..
وألف جزيرة..
شؤون..
شؤونك تلك الصّغيرة،
فحين تدخّن أجثو أمامك،
كقطّتك الطّيبة،
وكلي أمان،
ألاحق مزهّوةً معجبة،
خيوط الدّخان،
توزّعها في زوايا المكان،
دوائر.. دوائر،
وترحل في آخر اللّيل عنّي،
كنجم، كطيب مهاجر.
وتتركني يا صديق حياتي،
لرائحة التّبغ والذّكريات،
وأبقى أنا..
في صقيع انفرادي،
وزادي أنا.. كلّ زادي،
حطام السّجائر،
وصحناً.. يضّم رماداً،
يضّم رمادي..
وحين أكون مريضة،
وتحمل أزهارك الغالية،
صديقي.. إليّ،
وتجعل بين يديك يدي،
يعود لي اللّون والعافية،
وتلتصق الشّمس في وجنتي،
وأبكي.. وأبكي.. بغير إرادة،
وأنت ترد غطائي عليّ،
وتجعل رأسي فوق الوسادة..
تمنيت كل التّمني،
صديقي.. لو أنّي،
أظلّ.. أظلّ عليلة،
لتسأل عنّي،
لتحمل لي كل يوم،
وروداً جميلة..
وإن رن في بيتنا الهاتف،
إليه أطير،
أنا.. يا صديقي الأثير،
بفرحة طفل صغير،
بشوق سنونوّة شاردة،
وأحتضن الآلة الجامدة،
وأعصر أسلاكها الباردة،
وأنتظر الصّوت..
صوتك يهمي عليّ،
دفيئاً.. مليئاً.. قويّ،
كصوت نبي،
كصوت ارتطام النّجوم،
كصوت سقوط الحلي،
وأبكي.. وأبكي..
لأنّك فكرت فيّ،
لأنّك من شرفات الغيوب،
هتفت إلي..
ويوم أجيء إليك،
لكي أستعير كتاب،
لأزعم أنّي أتيت لكي أستعير كتاب،
تمدّ أصابعك المتعبة،
إلى المكتبة..
وأبقى أنا.. في ضباب الضباب،
كأنّي سؤال بغير جواب..
أحدّق فيك وفي المكتبة،
كما تفعل القطّة الطّيبة.
تراك اكتشفت؟
تراك عرفت؟
بأنّي جئت لغير الكتاب،
وأنّي لست سوى كاذبة،
.. وأمضى سريعاً إلى مخدعي،
أضمّ الكتاب إلى أضلعي،
كأنّي حملت الوجود معي،
وأشعل ضوئي.. وأسدل حولي السّتور،
وأنبش بين السّطور.. وخلف السّطور،
وأعدو وراء الفواصل.. أعدو،
وراء نقاط تدور،
ورأسي يدور..
كأنّي عصفورة جائعة،
تفتّش عن فضلات البذور.
لعلك.. يا.. يا صديقي الأثير،
تركت بإحدى الزّوايا،
عبارة حبّ قصيرة،
جنينة شوق صغيرة،
لعلك بين الصّحائف خبّأت شيّا،
سلاماً صغيراً.. يُعيد السّلام إليّا..
وحين نكون معاً في الطّريق،
وتأخذ – من غير قصد – ذراعي،
أحسّ أنا يا صديق..
بشيء عميق،
بشيء يشابه طعم الحريق،
على مرفقي..
وأرفع كفّي نحو السّماء،
لتجعل دربي بغير انتهاء،
وأبكي.. وأبكي بغير انقطاع،
لكي يستمر ضياعي،
وحين أعود مساء إلى غرفتي،
وأنزع عن كتفيّ الرّداء،
أحسّ – وما أنت في غرفتي -،
بأن يديك،
تلفّان في رحمة مرفقي،
وأبقى لأعبد يا مرهقي،
مكان أصابعك الدّافئات،
على كمّ فستاني الأزرق..
وأبكي.. وأبكي.. بغير انقطاع،
كأنّ ذراعي ليست ذراعي.