فصل البعد والفراق
يُشكل الغياب معاناة كبيرة للمحبين، فتتكرر الأيام وتضيق النفوس باللوعة والحزن. دائماً ما يأتي الشتاء محملاً بمرارة الفراق والبعد. علينا أن نوفر الرعاية لمن يحبوننا، لأن معاني الحب لا تتضح إلا في أوقات الفراق. ومن المؤكد أن الوجوه الجميلة ستذوب في تراب هذه الأرض، لكن تبقى القصائد والأشعار التي تركها شعراؤنا، لتجسد مشاعر أجمل بعد الفراق. في هذا المقال، سنستعرض بعض القصائد التي تناولت موضوع البعد والفراق.
يا دمع صب ما شئت أن تصوبا
ابن زيدون، وهو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومي، يُعتبر وزيراً وكاتباً وشاعراً أندلسياً بارزاً، وُلد سنة 1003 في قرطبة وتوفي عام 1071 في إسبانيا. اشتهر بحبه العميق لولادة بنت المستكفي، وبرز في مجالي الشعر والنثر. ومن أشهر قصائده “النونية”.
يا دمع صب ما شئت أن تصوبا
ويا فؤادي آن أن تذوبا
إذ الرزايا أصبحت ضروبا
لم أر لي في أهلها ضريبا
قد ملأ الشوق الحشا ندوبا
في الغرب إذ رحت به غريبا
عليل دهر سامني تعذيبا
أدنى الضنى إذ أبعد الطبيبا
ليت القبول أحدثت هبوبا
ريح يروح عهدها قريبا
بالأفق المهدي إلينا طيبا
تعطّرت منه الصبا جيوبا
يبرد حرّ الكبد المشبوبا
يا متبعاً إساده التأويبا
مشرّقاً قد سئم التغريبا
أما سمعت المثل المضروبا
أرسل حكيماً واستشر لبيبا
إذا أتيت الوطن الحبيبا
والجانب المستوضح العجيبا
والحاضر المنفسح الرحيبا
فحيّ منه ما أرى الجنوبا
مصانع تجتذب القلوبا
حيث ألفت الرشأ الربيبا
مخالفاً في وصله الرقيبا
كم بات يدري ليله الغربيبا
لمّا انثنى في سكره قضيبا
تشدو حمام حليه تطريبا
أرشف منه المبسم الشنيبا
حتّى إذا ما اعتنّ لي مريبا
شباب أفق همّ أن يشيبا
بادرت سعياً هل رأيت الذيبا
هصرته حلو الجنى رطيبا
أهاجري أم موسعي تأنيبا
من لم أسغ من بعده مشروبا
ما ضرّه لو قال لا تثريبا
ولا ملام يلحق القلوبا
قد طال ما تجرّم الذنوبا
ولم يدع في العذر لي نصيبا
إن قرّت العين بأن أؤوبا
لم آل أن أسترضي الغضوبا
حسبي أن أحرّم المغيبا
قد ينفع المذنب أن يتوبا
وداع وعتاب
إيليا أبو ماضي هو شاعر عربي يُعتبر من أبرز شعراء المهجر وأحد مؤسسي الرابطة القلمية. نشأ في أسرة بسيطة وتلقى تعليمه الابتدائي فحسب. عندما زادت صعوباته المعيشية في لبنان، انتقل إلى مصر حيث التقى أنطوان الجميل، الذي دعاه للكتابة في مجلة الزهور. نشر أولى قصائده من خلال المجلة، وتتابعت أعماله حتى تم تجميع شعره في ديوان بعنوان “تذكار الماضي”، الذي صدر عام 1911م.
أزفّ الرحيل وحان أن نتفرّقا
فإلى اللقاء يا صاحبي إلى اللقاء
إن تبكيا فلقد بكيت من الأسى
حتى لكدت بأدمعي أن أغرقا
وتسعّرت عند الوداع أضالعي
نارا خشيت بحرّها أن أحرقا
ما زلت أخشى البين قبل وقوعه
حتى غدوت وليس لي أن أفرقا
يوم النوى، لله ما أقسى النوى
لولا النوى ما أبغضت نفسي البقا
رحنا حيارى صامتين كأنما
للهول نحذر عنده أن ننطقا
أكبادنا خفّاقة وعيوننا
لا تستطيع، من البكا، أن ترمقا
نتجاذب النظرات وهي ضعيفة
ونغالب الأنفاس كيلا تزهقا
لو لم نعلّل باللقاء نفوسنا
كادت مع العبرات أن تتدفقا
يا صاحبي تصبّرا فلربما
عدنا وعاد الشمل أبهى رونقا
إن كانت الأيام لم ترفق بنا
فمن النهى بنفوسنا أن نرفقا
أن الذي قدر القطيعة والنوى
في وسعه أن يجمع المتفرقاً
ولقد ركبت البحر يزأر هائجا
كالليث فارق شبله بل أحنفا
والنفس جازعة ولست ألومها
فالبحر أعظم ما يخاف ويتقى
فلقد شهدت به حكيما عاقلا
ولقد رأيت به جهولا أخرقا
مستوفز ما شاء أن يلهو بنا
مترفق ما شاء أن يتفرقاً
تتنازع الأمواج فيه بعضها
بعضا على جهل تنازعنا البقا
بينا يراها الطرف سورا قائماً
فإذا بها حالت فصارت خندقا
والفلك جارية تشقّ عبابه
شقّا، كما تفري رداء أخلقا
تعلو فنحسبها تؤمّ بنا النسما
ونظنّ أننا راكبون محلّقا
حتى إذا هبطت بنا في لجّة
أيقنت أن الموت فينا أحدقا
والأفق قد غطّى الضباب أديمه
فكأنما غشي المداد المهرفا
لا الشمس تسطع في الصباح، ولا نرى
إما استطال الليل؛ بدرا مشرقا
عشرون يوما أو تزيد قضيتها
كيف التفتّ رأيت ماء مغدقا
(نيويورك) يا بنت البخار، بنا اقصدي
فلعلنا بالغرب ننسى المشرقا
وطن أردناه على حب العلى
فأبى سوى أن يستكين إلى الشقا
كالعبد يخشى، بعدما أفنى الصبى
يلهو به ساداته، أن يعتقا
أو كلما جاء الزمان بمصلح
في أهله قالوا. طغى وتزندقا؟
فكأنما لم يكنه ما قد جنوا
وكأنما لم يكفهم أن أخفقا
هذا جزاء ذوي النهى في أمة
أخذ الجمود على بينها موثقا
وطن يضيق الحر ذرعا عنده
وتراه بالأحرار ذرعا أضيقا
ما إن رأيت به أديبا موسرا
فيما رأيت، ولا جهولا مملقا
مشت الجهالة فيه تسحب ذيلها
تيها، وراح العلم يمشي مطرقا
أمسى وأمسى أهله في حالة
لو أنها تعرو الجماد لأشفقا
شعب كما شاء التخاذل والهوى
متفرّق ويكاد أن يتمزق
لا يرتضي دين الآله موفّقا
بين القلوب ويرتضيه مفرقا
كلّف بأصحاب التعبّد والتقى
والشرّ ما بين التعبّد والتقى
مستضعف، إن لم يصب متملقا
يوما تملّق أن يرى متملقا
لم يعتقد بالّلم وهو حقائق
لكنّه اعتقد التمائم والرّقى!
ولربما كره الجمود وإنما
صعب على الإنسان أن يتخلق!
وحكومة ما إن تزحزح أحمقا
عن رأسها حتى تولّي أحنقا
راحت تناصبنا العداء كأنما
جئنا فريّا أو ركبنا موبقا
وأبت سوى إرهقنا فكأنما
كل العدالة عندها أن ترهقا
بينا الأحباب يعبثون بها كما
عبث الصبا سحرا بأغصان النقا
(بغداد) في خطر ( ومصر) رهينة
وغدا تنال يد المطامع (جلّقا)
ضعفت قوائمها ولما ترعوي
عن غيّها حتى تزول وتمحقا
قيل اعشقوها قلت: لم يبق لنا
معها قلوب كي نحب ونعشقا
إن لم تكن ذات البنين شفيقة
هيهات تلقى من بينها مشفقا
أصبحت حيث النفس لا تخشى أذى
أبداً وحيث الفكر يغدو مطلقا
نفسي اخلدي ودعي الحنين فإنما
جهل بعيد اليوم أن نتشوّقا
هذي هي “الدنيا الجديدة” فانظري
فيها ضياء العلم كيف تألّقا
إني ضمنت لك الحياة شهيّة
في أهلها والعيش أزهر مونقا
أيام الفراق
جميل بن معمر، شاعر معروف بجماله وخفة روحه، وبسالة قلبه. في أحد أيام الأعياد، التقى ببثينة مع أختها أم الجير، فانجذب لإحدى النظرات وعبر عن حبه لها من خلال هذه القصيدة.
عجل الفراق ولَيتَه لم يعجل
وجرت بوادر دمعك المتهلل
طرباً وشاقك ما لقيت ولم تخف
بين الحبيب غداة برق مجول
وعرفت أنك حين رحت ولم يكن
بعدُ اليقين وليس ذاك بمشكل
لن تستطيع إلى بثينة رجعةً
بعد التفريق دون عام مقبل
أعود من جديد
محمد عبده صالح كان شاباً موهوباً في عزف آلة القانون. بدأ مسيرته الفنية في عام 1929، وكان مُعزفاً بشكل غير منتظم ضمن فرقة موسيقية، وتعاون مع فنانين مثل عبد الوهاب. لكن بعد وفاته لم يتمكن من تسجيل مقطوعاته موسيقياً.
راحل أنا بعد يومين
تلك حقيبتي
وها هي أوراقي
وذاك معطفي
وهذا حذاء للقدمين
راحل أنا بعد يومين
كنت أظن أن الرحيل
أمر جد مستحيل
لكني عرفت الآن
أن الترحال أفضل حال
من أجلي ومن أجلك
هاك خاتم وساعة يد
وقفاز لليدين
راحل أنا بعد يومين
راحل أنا عن دربك
لكني لن أنسى حبك
لن أنسى رغم البعد
وحتماً سأعود يوماً ..
هذا وعد
إني هنا أنتظر لحظة وداع
أعرفكِ لا تحبين النهايات الغريبة
ولكني أنتظر
لأنكِ أنتِ الحبيبة
هل تسمعيني؟
هل تفهميني؟
وهل نسيتي أن تودعيني؟
حسناً ..
هذا خطاب مني إليكِ
رسم عليه قلب ذو سهم وحرفين
كتب عليه
راحل أنا بعد يومين