سقاني الحبّ حُبًا هانئًا
من قصائد ابن الفارض في الحب:
سقاني حبّي راحةً لمقلتي
وكأسي وجهك من الحسن قد تألقتِ
فأوهمتُ رفاقي أن شرب نبيذهم
به سرَ سري في انتشائي بنظرةٍ
وبالأعين استغنيت عن قدحي ومن
سمائلها لا تحكم في نشوتي.
في حانة سكري، حان شكري لأصدقائي،
فقد مكّنوني من كتمان الحبّ مع شهرتي.
وعندما انقضى صحوي تقاضيتُ وصالها
ولم يغشني، في بحبوحة، ضعف خشيتي.
وأبثثتها ما بي، فلم يكن حاضري
رقيبًا على خلوة تجلوتي.
وقلتُ، وحالي بالصّبابَة شاهدٌ،
ومشاعري بها ماحٍ والفقد قائمٌ.
أحبي، قبل أن يُفني الحب مني بقيةً
أراكِ بها، وأنا ناظرٌ شغوف.
ومنّي على سمعي، إن منعتِ أن
أراكِ، فمن قبلي لغيري قد ذُقتِ.
فلي سكرٌ ما له من فاقةٍ
لها كبدي، لولا الهوى لم تفتنِ.
ولو أن ما بي كان في الجبال، لقلبتِ
طُرُسنا بها قبل التجلّي لدكّتِ.
هوى قد حجزني وجوىً نمتْ
به سقمٌ أودى بي إلى أوديتِ.
فطوفان نوحٍ، عند نواحي، كأدمعي؛
وإيقاد نيران الخليلِ كلوعتي.
ولولا زفيري لأغرقتني أدمعي،
ولولا دموعي أحرقتني زفرتي.
وحزني ما يعقوب لم يُبدِ ما له،
وكل بلى أيوب قد شاركني بلائي.
وآخر من فقدت من عشقوا إلي الورد،
بعضٌ مما مرّ بي، كان أول محنتي.
وفي ساعة أو قبل ذلك، مَن يبتلى
بآلامٍ وعوارضٍ، بجسمي أضرتِ.
لأذكره كربي أذى عيش أزمةٍ
بمنقطعي الركب، إذا العيس زمتِ.
وقد براح التبريح بي وأبادني،
ومدح صفاتي بي يوافق مادحي.
فندمت في سكري على تقصيري.
بجموع أسراري وتفاصيل سيرتي.
ظهرت له وصفًا وذاتي، بحيث لا
يراها لطامّةٍ من جوى الحب أبلتِ.
فأبدتْ، ولم ينطق لساني لسمعهِ
هواجس نفسي سر ما عنه أخفتِ.
وظلّت لفكري، أذنه خالدةً بها،
يدور به، عن رؤية العين دأبتِ.
أحبني الشاعر وغار، فلامني،
مجيبًا إياها، عن إنابة مُخبتِ.
كأن الكرام الكاتبين تنزّلوا
على قلبه وحيًا بما في صحيفتي.
وما كان يدري ما أجنّ وما الذي
حشاي من السرّ المصون، كأنك
وكشف حجاب الجسم أبرز سر ما
به كان مستورًا له من سريرتي.
فكنت بسرّي عنه في خفيةٍ وقد
خفتُه لوهنٍ من نحولي آنِتَكِ.
لقيلَ كنى، أو مسّه طيف جنةٍ
له، والهوى يأتي بكل غريبةٍ.
عجبتُ منك ومني
من قصائد الحلّاج في الحب:
عجبتُ منك ومني،
يا مُنَى المُتمنّي.
أدنيتني إليك حتى
ظننتُ أنك أني.
وغبتُ في الوجد حتى
أفنيتني بك عني.
يا نعمتي في حياتي،
وراحتي بعد دفني.
ما لي بغيرك أُنْسٌ
من حيث خوفي وأمني.
يا من رياض معانيه،
قد حويتَ كل فني.
وإن تمنيت شيئًا،
فأنت كل التمني.
والله ما طلعت شمس ولا غربت
من قصائد الحلاج في الغزل الصوفي:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبك مقرون بأنفاسي.
ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم
إلا وأنت حديثي بين جلاسي.
ولا ذكرتك محزونًا ولا فرحًا
إلا وأنت بقلبي بين وسواسي.
ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ
إلا رأيت خيالًا منك في الكأس.
ولو قدرت على الإتيان، جئتكم
سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس.
ويا فتى الحي إن غنيت لي طربًا،
فغنني بإسفٍ من قلبك القاسي.
ما لي وللناس كم يلحونني سفهًا،
ديني لنفسي ودين الناس للناس.
قلبي يحدثني بأنك متلفي
من قصائد ابن الفارض في الحب الصوفي:
قلبي يُحدثني بأنك مُتلفي،
روحي فداكَ، عرفتَ أم لم تعرفِ.
لم أقضِ حقّ هَوَاكَ إن كنتَ الذي
لم أقضِ فيهِ أسى، ومثلي من يفي.
ما لي سِوى روحي، وباذلُ نفسِهِ،
في حبّ من يهواهُ ليس بمسرفِ.
فلئن رضيتَ بها، فقد أسعفتني،
يا خيبة المسعى، إذا لم تسعفِ.
يا مانعي طيب المنام، ومانحي
ثوبَ السقام، وبه وجدي المتلفِ.
عطفًا على رمقي، وما أبقيتَ لي
من جسمي المضنى، وقلبي المُدنَفِ.
فالوَجد باقٍ، والوصل مُماطلي،
والصبر فانٍ، واللقاء مسوّفِ.
لم أخلُ من حسد لك، فلا تُضعْ
سهري بتشنيع الخيالِ المرجفِ.
وأسألْ نُجوم الليل: هل زارني الكرى
جفني، وكيف يزور من لم يعرفِ؟
لا غَرْوَ إن شحّت بغُمض جفونها
عيني وسحّت بالدّموعِ الدُرّفِ.
وبما جرى في موقف التوديعِ من
ألم النوى، شاهدتُ هول الموقفِ.
إن لم يكن وصل لديك، فعد بهِ
أملي، وماطل إن وعدتَ ولا تفي.
فالمطلُ منك لديّ إن عزّ الوفا
يحلو كوصلٍ من حبيبٍ مسعفِ.
أهفو لأنفاس النسيمِ تعلّةً،
ولوجهُ من نقلت شذاه تشوّفي.
فلعل نار جوانحي بهبوبها
أن تنطفئ، وأودّ أن لا تنطفئ.
يا أهل ودي أنتم أملي ومن
ناداكمُ يا أهل ودّي، قد كُفي.
عودوا لما كنتم عليه من الوَفا،
كرماً، فإنّي ذلك الخلّ الوفي.
وحياتكم قسمًا وفي
عمري، بغير حياتكم، لم أحلفِ.
لو أنّ روحي في يدي ووهبتها
لمبشّري بقدومكم، لم أنصفِ.
لا تحسبوني في الهوى متصنِّعًا،
كلفي بكم خلقٌ بغير تكلّفِ.
أخفيت حبّكم فأخفاني أسىً،
حتى، لعَمري، كِدتُ عنّي أختفي.
وكتمتُه عنّي، فلو أبدَيتُهُ
لوجدتُه أخفى من اللطف الخفي.
ولقد أقول لمن تحرّش بالهوى:
عرّضت نفسك للبلا فاستهدفِ.
أنت القتيل بأيّ من أحببتهُ،
فاختر لنفسكَ في الهوى من تصطفي.
قل للعذول: أطلتَ لومي طامعًا،
إنّ الملام عن الهوى مستوقفِ.
دع عنك تعنيفي، وذق طعم الهوى،
فإذا عشقتَ، فبعد ذلك عنّفِ.
برح الخفاء بحبّ من لو في الدجى
سفر اللثام، لقلتُ: يا بدرُ اختفِ.