قصيدة: أتحبّني وأنا ضريرة
كتبت الشاعر نزار قباني:
سألتها: أتحبني وأنا ضريرة، في وقتٍ يفيض فيه الجمال والفتن من جميع الجوانب، وكثيرات يملأن هذه الحياة بحضورهن الجميل والكامل. فما أنت إلا شخصٌ مجنون أو تشفق على من لا ترى، فقال بإخلاص: بل أنا عاشقٌ لكِ، حبيبتي. وما أريد من هذه الحياة سوى أن أراكِ زوجتي. وقد وهبني الله من المال ما يكفي، ولا أعتقد أن الشفاء أمرٌ مستحيل. فردت قائلة: إذا ما أعدت إلي بصري، سأقبل بك مقدّري، وسأقضي معك حياتي. لكن من لي بعيونٍ جديدة؟ وأي ليلٍ سيتبقى لها؟ وفي ذات يوم، جاءها مسرعاً قائلاً: ابشري، لقد وجدت المتبرع، وستستطيعين رؤية ما خلق الله من جمال. وسيُحقق وعدكِ لتكوني زوجتي. وفي لحظةٍ فتحت عينيها، فإذا به يقف ممسكاً يديها. فانفجرت صرخاتها: أأنت أيضاً أعمى؟ وبدأت تبكي حظها السيء. فقال: لا تحزني، أيتها الجميلة، فستكونين عيوني ودليلي. متى ستصبحين زوجتي؟ قالت: كيف أتزوج ضريراً وقد أصبحت بصيرة اليوم؟ فبكى وقال: اعذريني، من أكون كي تقبليني، لكن قبل أن تتركيني، أريد منكِ وعداً بالعناية بعيوني.
قصائد أخرى للشاعر نزار قباني
نقدم لكم مجموعة من القصائد الأخرى التي نظمها الشاعر نزار قباني:
امرأة حمقاء
يا سيدي العزيز، هذا خطاب امرأة حمقاء. هل كتبت إليك من قبل امرأة حمقاء؟ اسمها؟ لنترك الأسماء جانباً. أنا رانية، أم زينب، أم هند، أم هيفاء. ألسنا جميعاً نحمل الأسماء العبثية؟ يا سيدي العزيز، أخاف أن أقول ما يختلج في نفسي، خوفاً من أن تحترق السماء. شرقكم يا سيدي العزيز يمنع الرسائل الزرقاء، يصادر الأحلام من خزائن النساء، يستعمل السكين والساطور ليخاطب النساء، ويذبح الربيع والشوق والضفائر السوداء. لا تنتقدني سيدي، إن كان خطي سيئاً، فأنا أكتب والسياف ورائي، وخارج الحجرة صوت الرياح والكلاب. يا سيدي، عنترة العبسي خلف الباب يريد أن يذبحني، إذا ما رأى خطابي. لكنه ما زال يحاصرني. إذا أنا هربت من أقبية الحريم في القصور، إذا تمردت على الموت والحياة، فلا تنزعج! إذا كشفت عن مشاعري، فلن يفهم الرجل الشرقي المرأة إلا في السرير. معذرة سيدي، إذا تطاولت على مملكة الرجال. فتأملات محزنة عن الحياة، الأدب كان دائماً للرجال، والحب أيضاً كان دائماً من نصيبهم. حرية النساء في بلادنا ليست إلا خرافة، حرية لا تعني شيئاً. لذا، ما يقال عني، لن يغير شيئاً. فأنا امرأة حمقاء كما قلت.
رفقاً بأعصابي
شَرَّشْتِ في لحمي وأعصابي، وملكتني بذكاء سنجاب. شَرَّشْتِ في صوتي وفي لغتي، ودفتري وأثوابي. شَرَّشْتِ بي شمساً وعافية، وكسا ربيعك كل أبوابي. شَرَّشْتِ في عروق يدي، وفي حاجتي وزجاج أكوابي. شَرَّشْتِ بي رعداً وصاعقةً، وسنابل وكروم أعناب. شَرَّشْتِ حتى صار جوف يدي مراعياً لفراشات وأعشاب. تتساقط الأمطار من شفتي، والقمح ينبت فوق أهداي. شَرَّشْتِ حتى العظم، يا امرأة، فتوقفي رفقاً بأعصابي.
أيظنّ
أيظنّ أني لعبةٌ بين يديه؟ أنا لا أفكر في العودة إليه. عاد كأن شيئاً لم يكن، وبراءة الأطفال في عينيه. ليقول لي إنه رفيقة دربه وأنني الحب الوحيد لديه. جاء محملاً بالزهور، كيف أرد عليه وأنا أذكر الحرائق في دمي؟ كيف لجأت إلى زنديه، مخبأة رأسي عنده كطفلٍ أعيد إلى أبويه. فساتيني التي أهملتها فرحت به ورقصت على قدميه. سامحته وسألت عن أخباره، وبكيت ساعات على كتفيه. وبدون أن أدري تركت له يدي في نوم كالعصفور بين يديه، ونسيت حقدي في لحظة. من قال إنني قد حقدت عليه؟ كم قلت إني لن أعود له، ورجعت، وما أحلى العودة إليه.
في المقهى
جلسَت جارتي في مكانها كوعاء الورد في اطمئنانها وكتاب ضارع في يدي. كان يحصد الفضائل من إيمانها. يتراقص الفنجان في يدي شوقاً إلى فنجانها. آه من قبعة الشمس التي يلتهب الصيف على خيوطها. جولة الضوء على ركبتها زلزلت روحي من أركانها. هي من فنجانها شاربة، وأنا أشرب من أجفانها. قصة العينين تستعبدني، من رأى الأنجم في ظلامها؟ كلما حدقت فيها ضحكت وتعرى الثلج في أسنانها. شاركيني قهوة الصبح ولا تدفني نفسك في أشجانها. إنني جارك يا سيدتي، والربى تسأل عن جيرانها. من أنا؟ لندع السؤالات، أنا لوحة تبحث عن ألوانها. موعداً، سيدتي، وابتسمت وأشارت لي إلى عنوانها. وتطلعت فلم أجد سوى طبعة الحمرة في فنجانها.
الشقيقان
قلم الحمرة، أختاه، في شرفات الظن، ميعادي معه. أين أصباغي، ومشطي، والحلي؟ إنني أشعر بوجدٍ كهذا الذي يحرك الزوبعة. ناوليني الثوب من خزانتي، ومن الديباج هاتي أروعه. سرّحيني، جمليني، لوّني. نظفي الشاحب، إنني مسرعة. جوربي النار، فهل أنقذته؟ من يدٍ موشكة أن تقطعه. ما كذبت الله في ادعائي، كاد أن يهجر قلبي موضع الرحمة. يا هند، هل أمضى لي موعد؟ وأنا مبهورة ممتقعة. إنه الآن، إلى موعدنا، جبهة باذخة مرتفعة، ورداء يحصد الشمس. لا أسميه، إن كان اسمها نقرة العود وبوح المزرعة. لو سألت الريش من أجفانه، أتقي البرد به. لنقطع الصمت، فميعادي معه.
قصيدة: حب بلا حدود
لا تهتمي في إيقاع الوقت وأسماء السنوات. أنت امرأة تبقى امرأة في كل الأوقات. سوف أحبك عند دخول القرن الواحد والعشرين، وعند دخول القرن الخامس والعشرين، وعند دخول القرن التاسع والعشرين. وسأحبك حين تجف مياه البحر وتحترق الغابات. يا سيدتي، أنت خلاصة كل الشعر ووردة كل الحريات. يكفي أن أتهجى اسمك حتى أصبح ملك الشعر وفرعون الكلمات. يكفي أن تعشقني امرأة مثلِك حتى أدخل كتب التاريخ وتُرفع من أجلي الرايات. يا سيدتي، لا تَضطربي مثل الطائر في زمن الأعياد. لن يتغير شيء مني، لن يتوقف نهر الحب عن الجريان. لن يتوقف نبض القلب عن الخفقان، ولا حجل الشعر عن الطيران. حين يكون الحب كبيراً، والمحبوبة قمرًا. لن يتحول هذا الحب إلى حزمة قش تأكلها النيران. يا سيدتي، ليس هناك شيء يملأ عيني، لا أضواء، ولا زينات، ولا أجراس العيد، ولا شجر الميلاد.
قصيدة مئة رسالة حب
أريد أن أسافر من أوراق القاموس، وأطلب إجازة من فمي. فقد تعبت من استدارة فمي، أريد فمًا آخر يستطيع أن يتحول متى أراد إلى شجرة كرز أو علبة كبريت. أريد فماً جديداً، تخرج منه الكلمات كما تخرج الحوريات من زبد البحر، وكما تخرج الصيصان البيضاء من قبعة الساحر.
قصيدة أنت اللغة
أريد أصابع أخرى لأكتب بطريقةٍ أخرى. فأنا أكره الأصابع التي لا تطول ولا تقصر. كما أكره الأشجار التي لا تموت ولا تكبر. أريد أصابع جديدة، عالية كصوراي المراكب، وطويلة كأعناق الزرافات. حتى أفصل لحبيبتي قميصاً من الشعر لم تلبسه قبلي. أريد أن أصنع لك أبجدية غير كل الأبجديات، فيها شيء من إيقاع المطر، وشيء من حزن الغيوم الرمادية، وشيء من توجع أوراق الصفصاف. افتتحت عربات أيلول، أريد أن أهديك كنوزاً من الكلمات، لم تُهدَ لامرأة قبلك، ولن تُهدى لامرأة بعدك، يا امرأة. ليس قبلها قبل، وليس بعدها بعد.
قصيدة حبك طير أخضر
حبك طيرٌ أخضر، طير غريبٌ أخضر. يكبر يا حبيبتي كما الطيور، يكبر ينقر من أصابعي ومن جفوني. متى أتى هذا الطير الجميل الأخضر؟ لم أفكر بالأمر يا حبيبتي، إن الذي يحب لا يفكر. حبك طفلٌ أشقر، يكسر في طريقه ما يكسر. يزورني حين السماء تمطر، يلعب في مشاعري وأنا أصبر. حبك طفلٌ متعب، ينام كل الناس يا حبيبتي ويسهر. طفلٌ على دموعه لا أقدر. حبك ينمو وحده كما الحقول تزهر. كما على أبوابنا ينمو الشقيق الأحمر، كما على السفوح ينمو اللوز والصنوبر. كما بقلب الخوخ يجري السكر. حبك كالهوا يا حبيبتي، يحيط بي من حيث لا أدري به أو أشعر. جزيرة حبك لا يطالها التخيّل، حلم من الأحلام لا يُحكى ولا يُفسّر. حبك ما يكون يا حبيبتي، أزهر أم خنجر أم شمعة تضيء أم عاصفة تدمر، أم أنه مشيئة الله التي لا تُقهر؟ كل الذي أعرف عن مشاعري أنكِ يا حبيبتي، حبيبتي، وأن من يحب لا يفكر.